إجراءات التحكيم ومستنداته
ان مؤسسة التحكيم، ونظراً لكونها اضحت من اهم المؤسسات في عالم حل النزاعات ، وهي افضل الطرق البديلة لحل النزاعات، فإن هذه المؤسسة التي تحظى ببعض الامتيازات الفضائية، رغم خصوصيتها، شكلت وتشكل محط أنظار وموضوع دراسات وتمحيص.
سنتوجه مباشرة الى الناحية العملية للتحكيم، عنينا الناحية الاجرائية، اذ ان اجراءات التحكيم السليمة هي التي تقي القرار التحكيمي وتحميه، علماً ان هذه الاجراءات لا تنفصل ابداً عن مجموعة من المبادئ الاساسية للمحاكمة التحكيمية، كما انها لصيقة مجموعة من المستندات التي تشكل جزءاً اساسياً من التحكيم الذي لا يمكن تصوره الا تحكيماً خطياً مستندياً.
كما ذكرنا اعلاه، ان الاجراءات التحكيمية لا يمكن فصلها البتة، عن مجموعة اساسية من مبادئ المحاكمة، اهمها مبدأ وجاهية وتقيد المحكم بنطاق النزاع واحترام حقوق الدفاع.
وندرس هذه المبادئ نظراً لان اجراءات التحكيم ومستنداته، تشكل جزءاً منها، وان المبادئ المذكورة هي مظلة التحكيم واساس سلامته.
وقبل التطرق الى هذه المبادئ، سنعمد الى اختصار الاجراءات التحكيمية، دون ان ننسى التمييز دائماً بين التحكيم المؤسساتي والتحكيم الخاص (ad hoc) من ناحية الاجراءات والمبادئ.
أولاً: الاجراءات التحكيمية العملية:
سنعمد وتسهيلاً للبحث، الى تقسيم هذه الاجراءات الى 3 مراحل، وضمن كل مرحلة سنتطرق الى المستندات الاساسية التي ترافقها:
- مرحلة تشكيل الهيئة التحكيمية
- مرحلة المحاكمة – التحكيمية
- مرحلة ما بعد صدور القرار التحكيمي
أ- مرحلة تشكيل الهيئة التحكيمية:
لا يمكن اللجوء الى التحكيم، الا من خلال بند تحكيمي
(clause compromissoire) مدرج في الاتفاقية أو العقد، قبل نشوء اي نزاع وتحسباً له، أو من خلال اتفاقية تحكيمية (compromis)، تكون عادة بعد نشوء النزاع، فيتفق الفريقان على حله بواسطة التحكيم.
لن تنطرق هنا الى الشروط المطلوبة لصحة البند التحكيمي او اتفاق التحكيم، ولكن لا بد من التذكير بضرورة ان يكون خطياً وغير باطل، مع الاشارة الى التمييز بخصوص البنود التحكيمية بين التحكيم الداخلي والتحكيم الدولي، فما يمكن اعتباره باطلاً في التحكيم الداخلي قد لا يعتبر كذلك في التحكيم الدولي.
فبند التحكيم او اتفاقية التحكيم، هما اول مستند اساسي ورئيسي، ويعتبر منشئ التحكيم.
بعد توفر اي من المستندين( بند او اتفاقية)، يعرب طالب التحكيم او صاحب المصلحة عن رغبته باللجوء الى التحكيم، ويبلغ ارادته ورغبته للطرف الآخر.
وهنا لا بد من التمييز بين التحكيم المؤسساتي (arbitrage institutionel) والتحكيم الخاص ( ad hoc) الذي ينظمه فريقيه.
ففي التحكيم المؤسساتي، لا بد من اللجوء الى نظام التحكيمي الموضوع من قبل مركز التحكيم المتفق عليه (مثلاً: ICC_ international chamber of commerce) وتطبيق اجراءاته.
امّا في التحكيم الـ ad hoc، فلا بد من اعتماد الآلية المحددة فيه لتسمية المحكم او المحكمين.
اذ ان التحكيم يمكن ان يجريه محكم فرد او هيئة تحكيمية ( ضرورة ان يكون عددها وتراً)، وذلك بحسب ارادة الفريقين (وغالباً ما تؤخذ قيمة النزاع كأساس لاختيار محكم فرد أو هيئة).
وسنختار احدى الآليات المعتمدة عادة في تسمية الهيئة التحكيمية، وهي أكثرها استعمالاً، لنعطي مثالاً عن كيفية تعيين المحكمين من الناحية العملية:
يقوم طالب التحكيم بإبلاغ رغبته باللجوء الى التحكيم من الطرف الآخر، ويسمي له محكماً من قبله، ويبلغه هذه التسمية ويدعوه بنفس الوقت الى تسمية محكم من قبله خلال مهلة معينة (اسبوع او 10 ايام مثلاً). على الطرف الآخر الذي تبلغ ان يسمي محكماً من قبله ضمن المهلة المحددة والمتفق عليها مسبقاً في البند التحكيمي او الاتفاق التحكيمي.
وعلى المحكمين المسميان من قبل الطرفين، الاتفاق وتسمية المحكم الرئيس الذي سيرأس الهيئة خلال مهلة محددة أيضاً.
ففي حال لم يفعلا أو لم يتفقا، أو في حال لم يسمي الطرف الآخر محكم من قبله، كان لا بد من اللجوء الى جهة مختصة وصالحة، هي بالعادة رئيس المحكمة الابتدائية الناظرة في قضايا التحكيم، او مركز التحكيم (في التحكيم المؤسساتي).
وتبدأ مهلة التحكيم، اعتباراً من تاريخ قبول آخر محكم لمهمته والسؤال الذي يطرح نفسه:
هل اعتبرت الهيئة التحكيمية قد تشكلت، وتالياً انطلقت العملية التحكيمية، عند الحدود الذي ذكرناه اعلاه، اي عند قبول المحكم الرئيس لمهامه؟!
يمكن ان نجيب على هذا التساؤل، ونميز الجواب من ناحتين:
- ناحية نظرية، فنقول نعم، تشكلت هيئة
-ناحية عملية، فنقول لا، فالمهام لم تنطلق بعد، لأنه ينقصها اجراءات اضافية، سندرسها ادناه، في اول مرحلة من مراحل المحاكمة التحكيمية.
ب- مرحلة المحاكمة التحكمية:
بعد ان يتم تشكيل الهيئة التحكيمية، يعقد اعضاؤها اجتماع اولي فيما بينهم، ويطلبون الفرقاء تزويدهم بالمعلومات الاولية المتعلقة بالنزاع، وتتم دعوة الفريقين الى اول جلسة تشاور، للبدء بمناقشة اسس وثيقة مهام الهيئة “acte de mission” ما يعني ، مناقشة اولية لما يلي:
- موضوع النزاع
-لغة التحكيم
-قيمة النزاع
-مدة التحكيم
- اتعاب الهيئة
-مكان التحكيم
- الاستعانة بإداريين من عدمه
- قابلية القرار التحكيمي للاستئناف
وغيرها من الامور التي تشكل اساس مهام الهيئة التحكيمية علماً ان عدة نقاط من الممكن ان يكون الفريقان قد اتفقا عليها سابقاً في البند التحكيم او اتفاق التحكيم،( كاللغة، مكان التحكيم، مدته...) فيتم تدوين هذه الامور في الوثيقة.
وتعتبر وثيقة التحكيم، من اهم المستندات المؤسسة للتحكيم بعد البند التحكيمي، اذ انها مستند اساسي يجب ان يضم الى القرار التحكيمي عند اعطاء الصيغة التنفيذية، وليتم التحقق من مراعاة اجراءات التحكيم، للمبادئ الاساسية خاصة تلك المتعلقة بالنظام العام.
نشير الى ان الهيئة التحكيمية يمكنها الطلب من الفريقين، اعداد بيان مطالب، او لائحة بالمطالب، لتشكل مادة نقاش لإعداد الوثيقة المذكورة اعلاه.
وبعد ان يتم الاتفاق على الوثيقة، وتبادل الآراء، وانعقاد اكثر من جلسة لهذه الغاية ربما، يتم توقيع الوثيقة، وبعدها سداد الدفعة الاولى من اتعاب الهيئة التحكيمية، ويكلف كل فريق بتقديم استحضار ولوائحه ومستنداته الداعمة والمؤيدة لمطالبه.
وبما ان الهيئة التحكيمية او المحكم هو "قاضٍ خاص" فله ان يستمع الى شهود وله ان يعين خبراء (بطلب من الفرقاء أو بدونه)، وله ان يتثبت من الوقائع ويبني عليها قناعته اللازمة لإصدار القرار التحكيمي.
بعد الانتهاء من كل الاجراءات التي لها علاقة بالتبادل والجواب والتعليق والاستجواب (وسائل الاثبات) تحدد الهيئة او المحكم جلسة للمرافعة، التي يمكن ان تكون شفهية او خطية او كلاهما معاً.
بعدها، يعلن المحكم او الهيئة اختتام المحاكمة التحكيمية ويتم تحديد موعد لصدور القرار التحكيمي ومنذ هذا التاريخ لا يعتبر جائزاً تقديم اي مستند او طلب سبب ما لم يطلبه المحكم او الهيئة.
علماً ان القرار التحكيمي لن يسلم الى الفرقاء قبل تسديد كامل رصيد اتعاب المحكم او الهيئة التحكيمية.
نشير هنا الى حالة تمنع اي من الفريقين عن دفع نصيبه من رصيد الاتعاب، فيمكن عندئذٍ للفريق الآخر تسديد كامل الاتعاب على ان يحصلها من الفريق الآخر عند تنفيذ القرار التحكيمي .
ان القرار التحكيمي يصدر بنسخ اصلية بعدد الخصوم ونسخة اساسية تحفظ لدى المحكم او الهيئة التحكيمية، ويجب ان يصدر القرار التحكيمي قبل انقضاء مهلة التحكيم الاساسية او المحددة.
ولا يمكن لنا ان ننسى ان هنالك عقبات ممكن ان تعترض مسار التحكيم، كالطلبات الطارئة التي تقدم او تطرأ (طلب رد المحكم، وفاة احد الخصوم او احد المحكمين...)
ج- مرحلة ما بعد صدور القرار التحكيمي:
بعد صدور القرار التحكيمي وتسليمه للفرقاء، وجب على من له مصلحة بالتنفيذ، الاستحصال على الصيغة التنفيذية، من رئيس الغرفة الابتدائية الناظرة بقضايا التحكيم، التي اودع اصل القرار في قلمه.
ويجب ان يودع اصل القرار التحكيمي مع اتفاقية التحكيم، ليطلع رئيس المحكمة عليهما، فيقرر اعطاء الصيغة التنفيذية من عدمه.
لا ننسى ضرورة انتظار مهل الاستئناف او الاخذ بعين الاعتبار مسألة الابطال ووقف التنفيذ، فكلها امور تعرقل تنفيذ القرار التحكيمي.
كما نشير الى خطأ يقع فيه البعض ، عندما ينصون في البند التحكيمي على ضرورة ان يكون القرار " معجل التنفيذ نافذ على اصله"، وهذا الامر يشكل "خطيئة قانونية" لا خطأ عادي.
فإن القرار التحكيمي لا يمكن تنفيذه على اصله، اذ لا يمكن تنفيذه بدون الاستحصال على الصيغة التنفيذية، كما لا يمكن ان يكون نافذاً على اصله، لان القرار النافذ على اصله يجوز تنفيذه بواسطة قلم المحكمة التي اصدرته، وفي حالة التحكيم، ان المحكم ليس له قلم رسمي لينفذ القرارات التي يصدرها!!
اما وقد فرغنا من معالجة الاجراءات العملية للتحكيم في كل مرحلة، لا بد الآن ، من دراسة المبادئ الاساسية للمحاكمة التحكيمية، لأنها على صلة وثيقة بهذه الاجراءات وبمستندات التحكيم.
ثانياً: مبادئ المحاكمة التحكيمية واثرها على الاجراءات والمستندات:
ان التحكيم، سواء كان تحكيماً مطلقاً ام عادياً، يخضع دائماً لمبادئ قانونية اساسية.
فالتحكيم المطلق الذي يحكم فيه المحكم استناداً الى قواعد الانصاف (Equité)، والذي يعفى فيه من تطبيق اصول المحاكمات او القانون، يبقى خاضعاً دائماً كما التحكيم العادي، للمبادئ الاساسية للمحاكمة.
واهم هذه المبادئ التي تظلل التحكيم واجراءاته هي التالية:
أ- مبدأ التقيد بمبادئ ونطاق النزاع:
سبق وادلينا اعلاه، ان الوثيقة يجب ان تتضمن حكماً موضوع النزاع والمسائل القانونية التي يطرحها هذا النزاع.
وتالياً، لا يجوز للمحكم او للهيئة، ان يتجاوز نطالق النزاع، لامور اخرى لا تدخل به.
ومبدأ التقيد بمبدأ ونطاق النزاع، يجد منبعه من مبدأ "سيادة الخصوم على الدعوى"، فالفرقاء يملكون وحدهم توجيه الدعوى.
ومن هنا، يمكن القول ان المحكم، لا يمكنه الحكم بما لم يطلبه الخصوم، او بأكثر مما طلبوه، ولا يمكن التمنع عن الفصل لما طلبوه. فالحكم يستند في مهامه الى اتفاق التحكيم الذي يبقى ملزماً للجميع، فعدم بته بأي من النقاط يعتبر بمثابة عدم تنفيذه للمهام الموكلة اليه، وتجاوزه لنطاق النزاع، يعتبر بمثابة مخالفة للاتفاق التحكيمي.
وهذه المبادئ هي نفسها في التحكيم العادي والمطلق. فالمحكم المطلق وان كان ليس ملزماً بتطبيق قواعد الاصول والقانون، الا انه لا يمكنه الخروج عن النطاق المرسوم له.
ويمكنه في هذا الاطار، مراجعة العديد من الآراء والاجتهادات منها:
-"مجلة التحكيم عام 1956، صفحة 151، التحكيم في الشركات التجارية"
-" مجلة التحكيم 1973، صفحة 158، تعليق البروفسور فوشار على حكم محكمة استئناف باريس تاريخ 22/1/1973"
كما ان القانون اللبناني مثلاً، يمكن الاستناد اليه لاعلان ابطال القرار التحكيمي في حال مخالفة هذا المبدأ، وخصوصاً المادة 800 أ.م.م بند 1 و 3.
وهذا المبدأ، يرعى كل مراحل التحكيم، وخاصة المحاكمة التحكيمية واجراءاتها، ومن هنا تكمن اهميته، اذ ان مخالفته، تؤدي الى ابطال البند التحكيمي.
كما ينبثق من هذا المبدأ، ان المحكم يدير المحاكمة ويحقق فيها، وتكون له ما للقاضي من سلطة في هذا الصدد.
فله ان يأمر باجراء تحقيق استكمالاً لما تقدم به اي في الخصوم من ادلة. كما له ان يطلب منهم إيضاحات، كما له ان يصدر قرارات اثناء المحاكمة التحكيمية، لها طابع احتياطي، وله ان يسعى لعرض الصلح....
وكلها امور، فيها نصوص قانونية ترعاها (اصول المحاكمات المدنية اللبناني:135- 371- 374- 312- 776 ....)
وهذه النتائج المنبثقة من هذا المبدأ، تؤثر وتحدد الاجراءات المتبعة اثناء المحاكمة التحكيمية، فلها ان تطيل امدها، ولها في حال اختصارها وعدم الحاجة الى اجراءات محددة، ان تنهي النزاع بوقتٍ اقرب .
اما المبدأ الثاني الذي سندرسه، هو مبدأ الوجاهية.
ب- مبدأ الوجاهية:
ان هذا المبدأ، هو من اهم المبادئ التي تخضع لها المحاكمة التحكيمية ، وهو يضمن حق الدفاع للخصوم وحسن سير العدالة.
وهذا المبدأ، نصت عليه المادتين 372 و 373 أ.م.م.
وبما ان التحكيم له طبيعة قضائية، فإن المحكم ملزم بالتقيد التام بهذا المبدأ.
بهذا المعنى:
"لوكين في التحكيم المطلق في القانون المقارن والدولي، فقرة 331 وما يليها."
ان التطبيق العملي لهذا المبدأ، هو يحدد اجراءات التحكيم ويسيرها، فمن الواجب على المحكم ان يقوم بما يلي:
- دعوة الخصوم، مع ما يعني ذلك من اجراءات هي اسهل حكماً من اجراءات التقاضي، فيمكن دعوتهم عبر البريد الإلكتروني او الفاكس مثلاً، خاصة حتى اتفقوا على ذلك بالوثيقة.
- سماع الخصوم، مع ما يعني ذلك من سماعهم ولقائهم بحضور بعضهم البعض دون غيبة.
- اعطاء الحق لمناقشة الخصوم للمستندات والمطالب وجاهياً، وقد قضي في هذا المجال " ان مبدأ الوجاهية مفروض بصورة الزامية على المحكمين، وهو يلتزم بصورة خاصة ابراز المستندات حتى يتيح للخصم الآخر ابداء ملاحظاته بشأنها والجواب في الوقت المناسب على الوسائل المدلى بها على اساسها."
(محكمة استئناف باريس، قرار تاريخ 24/4/1980، مجلة التحكيم 1981 صفحة 175)
- اعطاء الحق لمناقشة الخصوم لعناصر الواقع والقانون المثارة، وذلك كتطبيق جوهري لمبدأ الوجاهية، والاجتهاد اكد على هذا الامر.
(محكمة استئناف باريس، قرار تاريخ 3/12/1965، مجلة التحكيم 1966 ص 32)
يظهر لنا بصورة واضحة، ان المحكم ملزم بأن يؤدي مهامه، تحت مظلة المبادئ الاساسية التي ترعى المحاكمة واهمها مبدأ الوجاهية.
وان هذه المبادئ، هي التي تحدد مسار الاجراءات وهي التي تعطي للمستندات قيمة، فالمستند لا يعتد به طالما ان الخصم لم يطلع عليه، ويعلق عليه، ويبرز ما لديه هو من مستندات، فمن بيان المطالب الى الاستحضار الى اللوائح ومرفقاتها، كلها تكون موضوعة في التبادل، اذ ان الهدف الاساسي في التحكيم هو الحكم بالعدل بعد جلاء الحقيقة.
أخيراً، يمكننا القول، انه ورغم ان اجراءات التحكيم تبقى خاضعة للمبادئ الاساسية التي تشكل ضمانة للمتنازعين، الا انها تبقى اسهل واسرع وانجع من اجراءات المحاكمة العادية، خاصة حتى وضع النزاع بين يدي هيئة او محكم مستقل ومحايد وصاحب كفاءة.